لم يسبق للمعرفة أبدًا أن كانت سهلة المنال كما هي الآن. لا يقتصر الأمر على كون المعرفة متوفرة للجميع، بل إنها متوفرة في عدة أشكال: مقروءة ومسموعة ومرئية. هذا يعني أن كل من يرغب في التحصيل المعرفي، بل وحتى الاستثمار في مشروع جاد للتطوير الذاتي لعدة سنوات، يستطيع أن يحقق ذلك أيًا يكن الحقل الذي يريد تعلمه، ومهما كانت رغبته في التعمق في ذلك الحقل، ومن خلال أي شكل للمعرفة يجده الأنسب له.

كل هذا بدأ عندما أصبح الكمبيوتر متوفرًا بأسعار زهيدة في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث بات بالإمكان ربط هذه الأجهزة المتناثرة حول العالم مع بعضها البعض بغض النظر عن المسافات الفيزيائية فيما بينها، لتنبثق من ذلك الشبكة العالمية، الشبكة التي ترتبط بها جميع الشبكات: الإنترنت. في الواقع، ليست هذه الشبكة العالمية سوى مجموعة من أجهزة الكمبيوتر المتصلة فيما بينها لتتيح للمستخدمين تبادل المعلومات. كلمة “معلومات” هنا قد تشير إلى أي شيء يمكن رقمنته: الرسائل النصية، الصور العائلية، مقاطع الحيوانات المضحكة، وبالتأكيد: المعرفة بجميع أشكالها وفي أي موضوع يخطر على بالك. لو طُلب منّي أن أصف القرن الواحد العشرين بكلمة واحدة، لما وجدت كلمة أفضل من “المعلومات”.

إلى جانب كونها متاحة ومتعمقة، أغلب هذه المعارف متوفر بالمجان، فلا يتطلب الحصول عليها سوى أن تدفع مبلغًا بسيطًا لمزود خدمة الإنترنت. في الواقع، نرى الآن أن العديد من المؤسسات التعليمية الشهيرة تتيح محتواها المعرفي لعامة الناس بلا مقابل مالي، مثل معهد MIT وجامعة هارفرد. هذا عامل مهم جدًا لجعل المعرفة متاحة وسهلة المنال للجميع. كون هذه المعارف مجانية يجعلها بديلًا محتملًا للتعليم المدفوع من ناحية جودة المخرجات. عندما تقارن ما بين التعليم المجاني والتعليم المدفوع، فإنك على الأغلب ستصل إلى أن التعليم المدفوع لا يتفوق على المجاني إلا في ميدان واحد: الشهادات التعليمية التي يعشقها سوق العمل. أما فيما عدا ذلك، فبإمكان التعليم المجاني أن يتساوى مع المدفوع في بناء الكفاءات البشرية، وقد يتفوق عليه أيضًا.

بالطبع، كل هذه الأخبار المبشّرة تحمل في طياتها أخبارًا سيئة. أمام كل هذه المعلومات المتاحة لنا، فإن التحدي ينتقل من كون المعلومات “صعبة المنال” إلى كونها “متوفرة بمقدار لا يمكن استيعابه”، مما يفرض وجود مشكلتين أساسيتين: عدم القدرة على التركيز، وضياع الوقت. عندما تكون المعلومات متوفرة بهذا الحجم الهائل، يصبح من السهل للذهن أن يتشتت فيما بينها في حين أننا نحاول التركيز على ما نريد الاستزادة منه الآن. كثيرًا ما يحدث هذا لي، وخصوصا في ظل كون الصفحات الإلكترونية مرتبطة ببعضها بما يسمى الوصلات التشعبية (hyperlinks): أثناء قراءتي لمقال معين، يضع الكاتب رابطًا لصفحة أخرى في وسط المقال لشرح مصطلح معين مثلًا، فتقرر الانتقال إلى تلك الصفحة، والتي ستحيلك إلى صفحة أخرى بطريقة مماثلة، وهكذا تتكرر العملية بلا نهاية إلى أن تقرّر التوقف عن ذلك.

المشكلة الثانية هي مشكلة الوقت الضائع في الفضاء الرقمي. قد تعتقد أنني أتحدث عن تبديد الوقت بلا طائل لمحاولة تعلم معارف ومهارات ليست ذات أهمية لك، لأنك لن تستفيد منها على أية حال. هذا تخمين صحيح لما أردت قوله، إلا أن الأمر لا يقتصر على مجرد ذلك، فالوقت يمكن أن يضيع على مواقع التواصل الاجتماعي كذلك (تذكّر أن “المعلومات” قد تعني أيضًا المقاطع المضحكة وصور الأصدقاء). يمكنك أن تقوم بهذه التجربة البسيطة: كثير من الهواتف الذكية الآن تحتوي على برنامج لمراقبة وقت الشاشة screen time monitor حيث يمكنك الاطلاع على تقرير مختصر عن كمية الوقت الذي تستهلكه في كل تطبيق، صدقني، قد تندهش كثيرًا من الوقت التي تبدده على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل الفيسوك والواتساب، ناهيك عن المقاطع المضحكة على انستقرام ويوتوب.

الطريقة الوحيدة للتغلب على هاتين المشكلتين هي بوضع خطة واضحة لما تريد أن تتعلمه، ومقدار ما تريد تعلمه، وكمية الوقت الذي ستخصصه لذلك. عندما تسير على هذه الخطة، وعندما تمتلك ما يكفي من الإرادة للتعلم، فإن الشبكة غير المحدودة هي كل ما يحدّك.