انقضى بالأمس ثالث فصل دراسي لي في الجامعة. أظن أن هذا حدث مهم في حياتي يجب أن أدونه. ولكن، لماذا انتهاء الفصل الثالث بالذات؟! ما الذي يجعله مميزاً عن الفصلين اللذين كانا قبله؟! حسنا، هذا الفصل هو أول فصل لي مع طلاب جميعهم صينيون. لم يكن هنالك أجنبي سواي وطالب روسي آخر، لكنه لم يكن يحضر الدروس ولا الاختبارات، لذا فقد كنت لوحدي بينهم، على خلاف الفصول الماضية التي كنت فيها مع طلاب أجانب، جميعهم أجانب! لذلك كان الأساتذة يتصرفون معنا ويعاملوننا كأجانب، فلم يكونوا يتحدثون بسرعة، ولم يستعملوا ألفاظا وتراكيب لغوية صعبة، بالإضافة إلى أنهم كانوا يحرصون شديد الحرص على أن الكل قد فهم ما يقولون، على المستوى اللغوي، على الأقل! أما هذا الفصل فقد كان مختلفا، مختلفا كليا! انتقلت في ليلة واحدة من بيئة كالتي وصفتها في الأعلى إلى بيئة مغايرة لها تماما! أجلس فيها كأجنبي وحيداً بين أكثر من ١٠٠ صيني! أنظر إلى الأساتذة، أحاول، عبثا، أن أمسك بكلمة مما يقولون كي أستطيع الإمساك بخيط من خيوط الدرس، لكن جميع محاولاتي، العابثة، كانت تبوء بالفشل، الفشل إلى حد الإحباط!

دخلت في أول يوم جامعي لي، وانا اقول انه كان اول يوم جامعي لأنه اليوم الذي شعرت فيه أنني طالب جامعي فعلا! دخلت إلى القاعة، وسط نظرات تعجب تلاحقني من وجوه القاعدين. كنت أشعر ان الجميع ينظر إلي وأنا في طريقي إلى المقعد الشاغر الوحيد الذي لمحته من بعيد. كنت أشعر بتلك النظرات على الرغم من أنني كنت أمشي ونظري إلى الأرض ( كعادتي، وليس لخجلٍ كان منّي)، فقلت لنفسي: “ربما كنت أتوهم أن الجميع يحدق بي!”، فرفعت رأسي ونظرت يميني ويساري، لقد كنت محقا فعلا! لم أخطئ! كان الجميع يحدق بي! أرجعت نظري إلى الأرض وأنا أشد يقينا بحدسي، ومشيت صوب المقعد البعيد في أول الصف (لأنني دخلت من الباب الخلفي)، جلست مكاني، وسمعت من خلفي فتاة تقول لصاحبتها: “هل يستطيع أن يفهم ما يقوله الأساتذة؟!”. فضحكت في نفسي، هل هذا سؤال يُسأل؟!بالتأكيد أستطيع ذلك! لقد قضيت سنتين هنا أحضر دروسا جميعها مع أجانب! تكللت جميعها بنتائج جيدة! كان ذلك مصدر ثقتي بنفسي، إلى حد ما. فظننت أن حضور الدروس في قاعة كلها طلاب صينيون، تقف في مقدمتها أستاذة تشرح بلغتها الصينية المعتادة دون مراعاة لذاك الأجنبي المسكين في طرف القاعة، سيكون أمرا بسيطاً جداً! لم يكن ذاك الغرور بالنفس عديم الجدوى على كل الاصعدة، فقد تعلمت، على الأقل، أن لا أغتر بنفسي كثيرا. حسنا، لقد كان درسا قاسيا، لكن هل استفدت منه فعلا؟ أعني، هل سأتوقف عن الغرور بنفسي طوال حياتي الآتية؟ لا أعلم، ولا أظن أنني سأفعل ذاك على أية حال. ستأتي علي مواقف أخرى أنسى فيها هذا الدرس، وأظن نفسي أهلا لها، ثم أعود أدراجي خائبا محمرّ الخد نتيجة صفعة الظروف مجددا. طبيعة بشرية، قد لا تكون سيئة دائما، فقد تخطئ تقدير ذاتك ٩٩٩ مرة، ثم تصيب في الألف، ولكن بعد ٩٩٩ صفعة. وإنما الحياة صبرٌ وتجاربُ!

عوداً إلى ذلك اليوم، لا حاجة هنا لأن أذكر ما حدث أثناء الدرس، لأنني تحدثت عنه فعلا بين السطور عندما تحدثت عن محاولاتي في الإمساك بخيوط الدرس. لكن القصة لم تنتهِ ها هنا، لقد اكتشفت بعد انتهاء الدرس أمراً خطيرا جدا! صفعة أخرى إن صح التعبير! لقد كنت في فصل غير فصلي! أحضر درساً لم يكن مقررا علي حضوره أصلا! وقد فوّتّ الدرس الذي كان مقررا علي. لم يكن عندي تفاصيل المواد المسجلة في جدولي بعد.

لقد كانت هذه بادئة هذا الفصل الدراسي، بادئة محرجة وسخيفة، لكنها تعطيكم انطباعا عن الوضع بعدها. لقد كنت أحضر دروسا لا أعرف عنها سوى اسمها! ولا أفهم منها شيئاً! لذلك كانت نتائج المواد التي بدأت مع أول يوم في هذا الفصل مخيبة للأمل عندما أقارنها بالمواد التي بدأت بعد شهر ونصف. كنت أظن أنني أحضر الدروس بلا أي فائدة تذكر طوال شهر ونصف. لم أكن أدرك أن الساعات التي قضيتها كالأبله هناك كانت تزيد من قدرتي على استيعاب اللغة الصينية أكثر. وها هو القدر يصفعني مرة أخرى على وجهي، لأنني أسأت تقييم ذاتي مجددا. لكن هذه المرة كانت صفعة عذبة رغم ألمها، إن صح التعبير، فقد قال لي بعدها: “هذه المرة، أنت أفضل مما تظن! لأنك في تطور دائم نحو الأمام”. أتمنى أن يكون كلامه عن التطور الدائم صحيحا، فلم أعد أتحمل صفعة جديدة نتيجة إساءتي تقدير ذاتي!

Beijing