لا تقتصر سبل تحصيل المعرفة على القراءة، عنوان قد يبدو صادمًا ومستفزًا في نظر البعض، فكيف يتجرأ أحد على التقليل من المكانة النبيلة للقراءة؟ ولكن الواقع فعلًا يخبرنا أن القراءة لم تعد الوسيلة الوحيدة والفريدة لاكتساب المعرفة أو الوصول إلى المعلومات.

في السابق، وقبل انتشار تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال وتطورها، كان اكتساب المعرفة والثقافة الشخصية يكاد ينحصر في الكتب المطبوعة، ونتيجة ذلك أن التحصيل الثقافي والمعرفي لم يكن يقتصر على فئة معينة من المجتمع فقط، بل كان ينحصر على من يهوى القراءة من تلك الفئة. حتى الوسائط الأخرى كالتلفزيون والإذاعة لم تستطع أن تستبدل هذه المكانة الحصرية، ببساطة لأنها مصادر موجَّهة (بفتح الجيم)، أي أن من يملك هذه القنوات التعليمية هو من يحدد ما يُعرض فيها من محتوى، وبذلك تصبح هذه المصادر موجِّهة (بكسر الجيم)، أي أن وظيفتها هي إنتاج نسخ بشرية تتشابه في تفكيرها وتوجهها ومستواها المعرفي . في مثل هذه البيئة، من الطبيعي أن يقترن الكتاب المطبوع بالثقافة وبناء الذات الواعية، الذات التي تختلف عمن حولها من النسخ البشرية. كان هذا هو واقع الأمر بالفعل، ولا تزال هذه النظرة منتشرة ومسيطرة حتى اليوم، فأي محاولة لاستبدال الكتاب المطبوع قد تُجابه باستنكار ورفض لكونها “تسعى للقضاء على الثقافة والوعي”.

في الحقيقة، الكتاب ليس إلا وسيلة لنقل المعلومة، أي أن الأوراق والحبر الذي عليها لا يشكّلان أي قيمة في حد ذاتهم، بل يكتسبون تلك القيمة -والقداسة- من النصوص والمعارف المطبوعة عليهم. أما اليوم، بعد أن انتقلت بنا التقنية إلى عالم آخر غير مسبوق في إمكانية تدوين المعلومات وتخزينها ونقلها واستعراضها، وبعدما تجاوزت وسائط نقل المعرفة حدود الكتاب فصارت مسموعة ومرئية، لم يعد الكتاب الورقي يحتل مكانته الفريدة المتصوَّرة من الناحية العملية، كما لم تعد القراءة هي الوسيلة الحصرية لاكتساب المعرفة والوعي.

لا أفهم هذا الحرص الشديد على القراءة والتركيز عليها وحدها، وهي ممارسات نراها على مستوى المجتمع وعلى مستوى المؤسسات. لا أفهمها لأننا جميعًا متفقون على أن كل إنسان له مواهبه وقدراته ومزاجه الخاص، فهناك من يتعلم بشكل أفضل عن طريق القراءة، وهناك من يتعلم عن طريق الاستماع أو المشاهدة. قد نشعر بالأسى على من أراد التعلم ولكنه لم يكن يهوى القراءة في الزمن الماضي، ربما قبل 20 سنة إذ لم تكن المصادر التعليمية بهذا التنوع ولم يكن الوصول إليها بهذه السهولة. أما الآن وقد تعددت مصادر التعلم، ما الذي يجعلنا متمسكين بالقراءة دون غيرها؟ القراءة ليست إلا هواية، بغض النظر عن نتائجها الإيجابية على مستوى الفرد، وإعطاء هذه الهواية فوق قدرها مع تجاهل غيرها لم يُنتجْ لنا سوى محتوى عربي ضعيف ومُخجل على شبكة الإنترنت (وأقصد هنا المحتوى بكافة أشكاله).

الحل في نظري يبدأ من تشجيع مبادرات صنع المحتوى التي يطلقها الشباب العرب، لأن مثل هذه المبادرات قد أثبتت بأنها جذّابة لجمهور عريض ومتنوع ديموغرافيًا. فهي أولًا لا تحتاج لكثير من الجهد للوصول إليها، إذ أنها متوفرة في الهواتف الذكية التي يحملها كل واحد منا. ثانيًا، لا تلتزم هذه المبادرات بقواعد الكتابة الصارمة، فيمكن لصانع المحتوى أن يتحدث بأسلوبه وبلهجته التي يستطيع بها التعبير عن نفسه بشكل أفضل. ثالثًا، يمكن عن طريق الطرق غير التقليدية أن تنقل المعرفة بشكل أفضل باستخدام أدوات “غير تقليدية”، مثل المؤثرات البصرية والسمعية والصور المتحركة. أما رابعًا، وهو أمر مهم جدًا: لا تخضع هذه المبادرات للحدود والتعقيدات التي تفرضها دور النشر، مثل العقود المجحفة التي تسلب الكاتب جهده والشروط الأشبه بالرقابة لما يمكن ولا يمكن نشره (وفي هذه النقطة قد يكون المحتوى الحر على الشبكة العنكبوتية أكثر فاعلية في “رفع الوعي” بعيدًا عن مقصات الرقيب).