قد يتصور البعض أن الغربة هي سياحة طويلة، أو إجازة يقضيها المغترب بعيدًا عن أي مسؤوليات سوى الدراسة والمرح. إن سفر السائح ليس كسفر المغترب .. ليس على السائح مواجهة حياة جديدة والتكيف معها. يكتفي السائح بالنظر إلى المكان والتقاط بعض الصور، ثم يرجع إلى حيث كان ليحكي عن رحلته التي لم تكلفه سوى المال. أمّا إن كنت تظن أن انتقالك إلى مدينة أخرى في وطنك هو غربة، فأنت لم تعرف بعد الغربة التي تغيّر فيها وطنك بأكمله.الغربة هي أن تُنزع، أو أن تَنتزع ذاتك من محيطك الذي عشت في كنفه وتطبّعت بأطباع أهله، ثم تُغرس قسرًا في محيط آخر يختلف كل الاختلاف عن ذاك الذي ألِفته. عليك الآن أن تبدأ من جديد، عليك أن تطرح كثيرًا من خبراتك عن الحياة، وأن تسابق الزمن لأنْ تكتسب غيرها كي تعينك على العيش هناك. تصل إلى أرض مختلفة، تستنشق هواءً مختلفًا، ترى وجوهًا جديدة، وتقول لنفسك: هذه هي مظاهر الحياة التي سأعيشها كل يوم خلال السنين القادمة، هذه هي الوجوه التي سأراها كل يوم، هذه هي الأرض التي سأنبت فيها من جديد. أنت تمامًا كالطفل الذي يكتشف العالم من حوله، أصغر التفاصيل تشدّك، أتفه الجوانب تبهرك، ترى مشهدًا واحدًا فتظن أنك فهمت الأمر كلّه: “هكذا هم إذن!”.

الغربة هي أن ترى أن الحياة يمكن أن تسير على نحو مختلف عن الذي ظننته الطريقة الوحيدة للعيش. عندما تريد القيام بعمل ما لم تكن لتبدي له أي اهتمام، تُفاجأ بأن عليك القيام به بشكل مختلف عن السابق؛ تبدأ باستنكار هذا الاختلاف، ثم التذمّر من اضطرارك إليه، حتى تنتهي إلى الاعتياد عليه كأنّك كنت تفعله على ذلك النحو طيلة حياتك. لا تنتبه إلى هذا التحول إلا في لحظات نادرة جدًا من التأمل والاختلاء بالذات في تلك الليالي التي تسترجع فيها بعض ماضيك، فتُدهش من التغير الذي طرأ عليك. كأنما هو بذرة كنت ترعاها لأشهر، تسقيها كل يوم، فتنمو وتتفرع غصونها وأنت لا تلحظ فيها أي جديد، ثم يأتي اليوم الذي تتأملها فيه وتكتشف أن هذه الشجرة العملاقة لم تكن سوى بذرة حقيرة قبل أشهر فقط!

الغربة هي أن تُجرّد من كل دعم كنت تحصل عليه دون جهد تبذله إلا في إلقاء الأوامر. تترجل من الطائرة التي نقلتك إلى هناك، فتُصدم بأن لا أحد سيطعمك إن لم تطعم نفسك، ولا أحد سيغسل لك ملابسك إن لم تغسلها بنفسك، وأنّ المكان الذي تعيش فيه سيصبح كومة قاذورات إن لم تترك كرسيّك المريح لترمي بعلبة العصير -الذي اشتريته بنفسك- في القمامة. تدفعك كل هذه الأمور دفعًا إلى أن تجد حلًا عاجلًا لها. كل الأشخاص الذين كانوا يعينوك في السابق على إتمام مهامك البسيطة يختفون هناك، في تلك البلاد الجديدة، وتتسلم أنت أدوار الجميع. تعيش لوحدك حياة الأم والأب والطالب والصديق. تتكاثر المسؤوليات وتظهر فجأة من حيث لا تعلم، حتى يُصبح همّ الشهادة الجامعية، التي هي هدفك الأساسي الذي جئت من أجله، مجرد أمر بسيط إلى جانب العشرات من المهام التي يجب عليك قضاؤها. تتبدد طاقتك الذهنية بين كل ذلك، فقد تجلس في قاعة الجامعة وتنسى أمر الدرس برمّته وتبدأ في التفكير بما هو أهم: ماذا ستطبخ وكيف؟ وقد تقف أمام الفرن وتنسى أمر الطعام برمّته، وتبدأ في التفكير بما هو أهم: متى ستدرس وكيف؟ كل شيء يأكل من وقتك وذهنك، ويجعلك تعيش قلقًا مستمرًا، تتمنى لو أن اليوم يزيد ساعة فقط لتستقيم حياتك قليلًا.

الغربة هي أن تُفتح أمامك كل خيارات الحياة، وأن تُعطى كامل الحرية فيما تفعل. تكون غرفتك الخاصة هي محيطك الآمن المستقر، أما خارجها فأنت مُحاط بكل ما في الحياة من مغريات. أنت لا تتجرد من كل دعم فحسب، بل وتُعطى الإشارة الخضراء لفعل كل ما تشاء. أنت لا تخوض اختبارًا لمعرفة نفسك فحسب، بل وتتعرض للنحت والتشكيل في كل يوم بطريقة فجّة حتى تعود شخصًا مختلفًا. تسترجع بعض الذكريات، فترى أن ليس مظهرك هو الذي تغير فحسب، بل حتى قناعاتك واعتقاداتك ومشاعرك قد تعرّضت لذات النحت وإعادة التشكيل. تحبّ أمورًا كنت تكرهها وتكره أخرى كنت تحبها، تقبل بأمور كنت ترفضها وترفض أخرى كنت تفعلها. وفي خضمّ هذا التغيير كله، عليك أن تراقب نفسك دائمًا، عليك أن تكبح نفسك كل يوم لكيلا تنجرف فلا تستطيع الرجوع، وأن تستثمر في التغير الذي قد يكون نافعًا لك. هو صراع بين ما هو محتوم أن يحدث وبين ما لا ينبغي أن يحدث، صراع لا يخلو من عثرات قد تجعلك أكثر تساهلًا أو أكثر إصرارًا.

الغربة هي أن تعيش تلك الفترة التي تتشكل فيها للمرة الثانية ولكن في مكان مختلف عن الذي ستعيش فيه بقية حياتك، فإن كانت الطفولة تشكّل ملامح شخصيتك، فمرحلة الشباب تحدد تفاصيلها. كل ما تكتسبه هنا -في الشباب- يَثبُت فيك ويغدو طاقةً كامنة قد تنمو وتزدهر إن أنت رعيتها؛ وكل ما تفقده قد يظل حسرةً وعقدةً تعيشها في مستقبلك. الحياة لا تعطيك كل شيء، وكل خيار تتخذه هو أفق جديد وقيْد جديد، ستنعم في الأفق، ولكن عليك أن تتحمل القيد. تجد نفسك في موقف يجب عليك فيه أن تختار لنفسك ما تريد، وأن تحاول إيجاد نقطة التوازن التي تُرضيك آفاقُها وتسلّيك عن قيودها.

الغربة هي أن تعود أخيرًا إلى مكانك القديم، محيطك القديم، إلى تلك الوجوه القديمة، فتشعر بأنك منفصلٌ عن كثير مما هو هناك. منفصل عن نمط الحياة الذي اعتدت على غيره، وعن الأشخاص الذين لم يعيشوا تجربتك فلمْ يفهموك كما أنت، ولا زالوا يعتقدون أن الشخص الذي رحل قد عاد أخيرًا ولم يتغير منه سوى مظهره، فيعاملونك ليس كما أنت الآن بل كما كنت في السابق، كأن الزمن قد توقف عندهم ولكن معاوله ظلت تعمل فيك ما تعمل. يداهمك الشوق إلى مكانك القديم وأنت في مكانك الجديد، ويداهمك الشوق ذاته بعد عودتك ولكنه شوق إلى ذلك المكان الجديد. عندما يسألك أحدهم: أين تعيش؟ تحتار كيف تجيبه، هل تخون مكانك القديم؟ أم تتنكر لمكانك الجديد؟ إن الأشياء التي يملكها الإنسان تجعله يشعر بالأمان والاستقرار، ولكن كيف وقد تشتت كل شيء هنا وهناك؟ كيف وقد انتشر الأصدقاء بين هذا البلد وتلك؟ كيف وقد تبعثرت الكلمات بين اللغات؟

الغربة.. لا ينتهي الحديث عنها، بل قد لا يمكن الحديث عنها… هي تغير كل شيء فيك وحولك، تغيّر لن يعرفه إلا من عاشها مثلك، ولا تستطيع الحديث عنه مع رفاق الغربة إلا بأشباه التعابير كالتي رميتُها هنا وحاولت تنسيقها وتأنيقها دون جدوى