من أكثر الأسئلة التي وردتني في الفترة الأخيرة بعد نشر كتاب اعتراف، هو السؤال عن سبب ترجمة ما قد تمت ترجمته مسبقًا. هل إعادة الترجمة ضرورة؟ أم مجرد ترف لا طائل منه؟

في الواقع، ليس من الدقة في شيء أن نعرّف الترجمة بأنها نقل نصّ ما من لغة إلى أخرى، لأن هذا التعريف يقتضي القول بأن النص ذاته وبكامل أبعاده ومعانيه التي يحملها في لغته الأصلية قد تم نقله بنجاح إلى اللغة المترجَم إليها، وهذا قول خاطئ بالطبع. الترجمة، كما أراها، ما هي إلا محاولة لإعادة كتابة النص الأصلي بأسلوب آخر في لغة أخرى، ولذلك تشوب هذه المحاولات الكثير من الأخطاء والقصور في العديد من جوانبه.

يبدأ القصور والعجز في الترجمة المثالية عند حقيقة أن لا أحد يفهم ما في نفس الكاتب إلا الكاتب نفسه. فحتى إن حاولت إعادة كتابة النص الأصلي بنصّ آخر في نفس اللغة فلن تُوفق كثيرًا في التعبير عما في نفس الكاتب كما هو. لعلّ هذا يُعتبر جزءًا من طبيعة الإنسان كما وصفها دوستويفسكي في إحدى أعماله حينما قال أن الإنسان يعيش سنين طوالًا ثم يموت وتبقى في داخله فكرة لم ولن يستطيع التعبير عنها كما هي.

أما القصور من الناحية الفنّية فيكمن في اختلاف اللغات في تعابيرها وفي أساليبها الأدبية، وهذه نتيجة حتمية لاختلاف المناخ والأرض والعادات بين حضارة إلى أخرى. فلا بد للمترجم أن يجد المرادفات التي تستطيع التعبير عن معنى النص لا بالترجمة الحرفية، بل بترجمة المعنى بشكل أساس. بالطبع، ترجمة المعنى لا تعني الابتعاد كثيرًا عن ألفاظ النص الأصلي. لا يوجد هنالك حدود واضحة يمكن للمترجم أن يسير وفقًا لها، لذلك يجب عليه أن يظل يقظًا وحذرًا طوال عملية الترجمة حتى يستطيع الموازنة بين ترجمة المعاني وبين الحفاظ على بُنية النص الأصلي بألفاظه وتشبيهاته الأدبية. أما الناتج النهائي فهو مقاربة لمعاني النص الأصلي بالحفاظ على ألفاظه قدر الإمكان وباستخدام أسلوب لغوي يستسيغه القارئ في اللغة المترجَم إليها. وهذه، لعمري، أصعب المهمات!

إذن، لماذا نعيد الترجمة؟

قبل تعداد الدوافع، من الجدير بالملاحظة أن أغلب الأعمال التي تُعاد ترجمتها هي الأعمال الأدبية. لأن العمل الأدبي يحمل آفاقًا أوسع، ولأنه يعتمد على الأسلوب اللغوي أكثر من اعتماده على المعلومات التي يقدمها النص. فكل ترجمة لعمل أدبي هي عمل أدبي جديد يحاول نقل العمل الأصلي بصورة مختلفة وفريدة؛ أما إعادة ترجمة الأعمال غير الأدبية -مثل الكتب الاقتصادية أو العلمية- فهي مجرد إعادة تدوير لما قد قيل سابقًا، فالسرعة ستظل نسبة المسافة إلى الزمن مهما حاولت إعادة ترجمة هذا القانون.

أما دوافع الترجمة كما أراها فيمكن أن ألخصها بالتالي: أولًا، وببساطة، لأن “كل ترجمة إخفاق” كما يقول جاك دريدا. ذلك لأن كل ترجمة هي مقاربة لروح النص الأصلي، قد تُصيب في جهة ولكن قد تخيب في جهة أخرى. فيأتي شخص ما ليكتشف الخلل ويحاول إصلاحه بترجمة أخرى قد تحمل إخفاقات جديدة. ولأن كل مترجم يظن أنه يستطيع إضافة ما لم يضفه المترجمون قبله.

ثانيًا، لا تقتصر هذه الإضافة على مجرد الإضافة الأدبية، بل وتمتد إلى خلفيات النص التاريخية والسياسية والاجتماعية، أي إلى الظروف التي سادت في عصر تأليف الكتاب، أو إلى المعاني التي قد لا يذكرها الكاتب لثقته بأن جميع أبناء بلده سيفهمونها من بين السطور باعتبار أنهم أبناء تلك الحضارة وذلك التاريخ. أما القارئ الأجنبي، فقد تفوته الكثير من الإسقاطات والإحالات، وقد لا يفهم الكثير من جوانب النص فقط لأنه لم يولد في الظروف التي خرج منها ذلك النص. وهنا تأتي أهمية التعليقات والهوامش التي يضيفها كل مترجم لتُعين القارئ على فهم أعمق للنص. وباختلاف اطلاع المترجمين وتباين مستويات الثقافة فيما بينهم تزداد تلك الهوامش أو تنقص.

ثالثًا، لأن اللغات تشيخ وتهرم وتموت كما يقولون. ليس المقصود بأن اللغة ذاتها تشيخ، بل الأسلوب والكلمات الشائعة والتعبيرات تمرّ عليها دورة حياة تنتقل فيها من الشيوع إلى الغرابة. فالكتابات التي تعود إلى العصر العباسي مثلًا تختلف تمامًا عن الكتابات في عصرنا هذا. وهذا دافع مهم جدًا لترجمة ما تمت ترجمته في السابق ليكون لائقًا بالعصر الجديد. ومن نافل الحديث هنا أن أذكّر بأهمية إعادة كتابة الكتب والمخطوطات العربية القديمة بلغة عصرية يفهمها الجميع دون الحاجة إلى مخزون أدبي ضخم، فإعادة الكتابة هي في الواقع بعث للكتب القديمة إلى الحياة مرة أخرى.

وفي النهاية، تبقى الترجمة مجرد نتاج يحاول صاحبه تقديمه بأفضل ما يمكنه، ولكن الحكم النهائي يرجع إلى القارئ الفرد.